فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} أنها رأتهم، وهي بعيدة عنهم، قيل: بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام.
ومعنى التغيظ: أن لها صوتًا يدل على التغيظ على الكفار، أو لغليانها صوتًا يشبه صوت المغتاظ.
والزفير: هو الصوت الذي يسمع من الجوف.
قال الزجاج: المراد: سماع ما يدل على الغيظ، وهو الصوت أي: سمعوا لها صوتًا يشبه صوت المتغيظ.
وقال قطرب: أراد علموا لها تغيظًا، وسمعوا زفيرًا كما قال الشاعر:
متقلدًا سيفًا ورمحًا... أي: وحاملًا رمحًا، وقيل: المعنى: سمعوا فيها تغيظًا وزفيرًا للمعذبين كما قال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، وفي واللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا} وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة، وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب {مُقْرِنِينَ} على الحال أي: إذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا حال كونهم مقرّنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل: مكتفين، وقيل: قرنوا مع الشياطين أي: قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي: في ذلك المكان الضيق {ثُبُورًا} أي: هلاكًا.
قال الزجاج: وانتصابه على المصدرية أي: ثبرنا ثبورًا، وقيل: منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك، وينادونه لما حلّ بهم من البلاء، فأجيب عليهم بقوله: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُورًا واحدا} أي: فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة أي: اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك، وأعظم، كذا قال الزجاج {وادعوا ثُبُورًا كَثِيرًا} والثبور مصدر يقع على القليل والكثير، فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضربًا كثيرًا، وقعد قعودًا طويلًا، فالكثرة ها هنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد، والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحدًا، وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدّته، وعدم تناهيه، وقيل: هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل: إن المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدًا بل هو ثبور كثير، لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم: الدلالة على خلود عذابهم، وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.
ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخًا بالغًا على لسان رسوله، فقال: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} والإشارة بقوله: {ذلك} إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة أي: أتلك السعير خير أم جنة الخلد؟ وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها، وعدم انقطاعه، ومعنى {التي وُعِدَ المتقون} التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلًا، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم، أنهم يقولون: السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة؟ وقيل: ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير.
قال النحاس: وهذا قول حسن.
كما قال:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

ثم قال سبحانه: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} أي: كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم، ومصيرًا يصيرون إليه.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي: ما يشاؤونه من النعيم، وضروب الملاذ كما في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31]، وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود.
{كَانَ على رَبّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} أي: كان ما يشاؤونه، وقيل: كان الخلود، وقيل: كان الوعد المدلول عليه بقوله: {وُعِدَ المتقون} ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله: {وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8]، وقيل: المراد به: الوعد الواجب، وإن لم يسأل.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس: أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا، فسل لنفسك، وسل ربك: أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا» فأنزل الله في ذلك {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] أي: جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض، ومفاتيحها ما لم يعط نبيّ قبلك، ولا نعطها أحدًا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئًا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله سبحانه: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا}.
وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا» قيل يا رسول الله: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم، أما سمعتم الله يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}» وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشدّ بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل برّ وفاجر {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلاّ بدت، ثم تزفر الثانية، فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا مُّقَرَّنِينَ} قال: «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُورًا} قال: ويلًا {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُورًا واحدا} يقول: لا تدعوا اليوم ويلًا واحدًا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث.
قال السيوطي بسندٍ صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل ما يكسي حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم حتى يقف على الناس، فيقول: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُورًا واحدا وادعوا ثُبُورًا كَثِيرًا}» وإسناد أحمد هكذا: حدّثنا عفان عن حميد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.
وفي عليّ بن زيد بن جدعان مقال معروف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {كَانَ على رَبّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {كانت لهم جزاء} أي من الله {ومصيرًا} أي منزلًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: قال كعب الأحبار: من مات وهو يشرب الخمر لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة قال عطاء: فقلت له: فإن الله تعالى يقول: {لهم فيها ما يشاءون} قال كعب: إنه ينساها فلا يذكرها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كان على ربك وعدًا مسئولًا} يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي من طريق سعيد بن هلال عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {كان على ربك وعدًا مسئولًا} قال: إن الملائكة تسأل لهم ذلك في قولهم {وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} [غافر: 8] قال سعيد: وسمعت أبا حازم يقول: إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا، فانجز لنا ما وعدتنا. فذلك قوله: {وعدًا مسئولًا}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}.
قوله: {خَالِدِينَ} منصوبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل {يَشاؤون} وإمَّا مِنْ فاعل {لهم} لوقوعِه خبرًا. والعائدُ على {ما} محذوفٌ أي: لهم فيها الذي يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين.
قوله: {كَانَ على رَبِّكَ} في اسمِ كان وجهان، أحدهما: أنه ضميرُ {ما يَشاؤون}، ذكره أبو البقاء. والثاني: أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنْ قوله: {وُعِدَ المتقون}. و{مَّسْئُولًا} على المجازِ أي: يُسْأَلُ: هل وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)}.
المتقون أبدًا في النعيم المقيم؛ حور وسرور وحبور، ورَوْحٌ وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيده، وألذُّ شرابٍ وكاساتُ محابِّ، وبسطُ قلبٍ وطيبُ حالٍ، وكمال أُنْسٍ ودوام طرب وتمام جَذَلٍ، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماءٌ في الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها. ثم فيها ما يشاؤون، وهم أبدًا مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون.
قوله جلّ ذكره: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}.
ولكن لا يخلق في قلوبهم إلا إرادةَ ما عَلِم أنه سيفعله، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتُهم، ويمنع من قلوبهم مشيئتَه. اهـ.